الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
فصل وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (المرء مع مَنْ أحب) فهو من أصح الأحاديث، وقال أنس فما فَرِحَ المسلمون بشيء بعد الإسلام فرحهم بهذا الحديث، فأنا أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن يحشرني الله معهم، وإن لم أعمل مثل أعمالهم،وكذلك: (أوثق عُرَي الإسلام الحب في الله، والبغض في الله) لكن هذا بحيث أن يحب المرء ما يحبه الله، ومَنْ يحبه الله. فيحب أنبياء الله كلهم؛ لأن الله يحبهم، ويحب كل من علم أنه مات على الإيمان والتقوى، فإن هؤلاء أولياء الله، والله يحبهم؛ كالذين يشهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وغيرهم من أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان. فمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة شهدنا له بالجنة، وأما من لم يشهد له بالجنة فقد قال طائفة من أهل العلم: لا يشهد له بالجنة/ولا نشهد أن الله يحبه. وقال طائفة: بل من استفاض من بين الناس إيمانه وتقواه، واتفق المسلمون على الثناء عليه، كعمر بن عبدالعزيز، والحسن البصري، وسفيان الثوري، وأبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، والفضيل ابن عياض، وأبي سليمان الداراني،ومعروف الكرخي،وعبد الله بن المبـارك ـ رضي الله عنهم ـ وغيرهم، شهدنا له بالجنة؛ لأن في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها خيرًا، فقال: (وَجَبَتْ، وَجَبَتْ)، ومرَّ عليه بجنازة فأثنوا عليها شرًا. فقال: (وجبت، وجبت). قالوا: يا رسول الله ما قولك وجبت، وجبت؟. قال: (هذه الجنازة أثنيتم عليها خيرًا، فقلت: وجبت لها الجنة، وهذه الجنازة أثنيتم عليها شرًا، فقلت: وجبت لها النار). قيل: بِمَ يا رسول الله؟! قال: (بالثناء الحسن، والثناء السيئ). وإذا علم هذا، فكثير من المشهورين بالمشيخة في هذه الأزمان قد يكون فيهم من الجهل والضلال والمعاصي والذنوب ما يمنع شهادة الناس لهم بذلك، بل قد يكون فيهم المنافق والفاسق، كما أن فيهم من هو من أولياء الله المتقين، وعباد الله الصالحين، وحزب الله المفلحين، كما أن غير المشائخ فيهم هؤلاء ـ وهؤلاء في الجنة ـ كالتجار والفلاحين، وغيرهم من الأصناف. /وإذا كان كذلك، فمن طلب أن يحشر مع شيخ لـم يعلـم عاقبتـه كان ضالاً، بل عليه أن يأخذ فيطلب ـ بما يعلم ـ أن يحشره الله مع نبيه والصالحين من عباده. كما قال الله تعالى: وعلى هذا، فمن أحب شيخًا مخالفًا للشريعة كان معه، فإذا أدخل الشيخ النار كان معه، ومعلوم أن الشيوخ المخالفين للكتاب والسنة أهل الضلال والجهالة، فمن كان معهم كان مصيره مصير أهل الضلالة والجهالة، وأما من كان من أولياء الله المتقين؛ كأبي بكر وعمر وعثمان وعلى، وغيرهم. فمحبة هؤلاء من أوثق عُرَي الإيمان، وأعظم حسنات المتقين، ولو أحب الرجل لما ظهر له من الخير الذي يحبه الله ورسوله أثابه الله تعالى على محبة ما يحبه الله ورسوله، وإن لم يعلم حقيقة باطنه، فإن الأصل هو حب الله، وحب ما يحبه الله، فمن أحب الله وأحب ما يحبه الله كان من أولياء الله. لكن كثيراً من الناس يدعي المحبة من غير تحقيق، قال الله تعالى: وما أكثر من يدعي حب مشائخ لله، ولو كان يحبهم لله لأطاع الله الذي أحبهم لأجله، فإن المحبوب لأجل غيره تكون محبته تابعة لمحبة ذلك الغير، وكيف يحب شخصًا لله من لا يكون محبًا لله؟ وكيف يكون محبًا لله من يكون معرضًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسبيل الله؟ وما أكثر من يحب شيوخًا أو ملوكًا وغيرهم، فيتخذهم أندادًا يحبهم كحب الله، والفرق بين المحبة لله والمحبة مع الله ظاهرة، فأهل الشرك يتخذون أندادًا، يحبونهم كحب الله، والذين آمنوا أشد حبًا لله، وأهل الإيمان يحبون؛ وذلك أن أهل الإيمان أصل حبهم هو حب الله، ومن أحب الله أحب من يحبه الله، ومن أحبه الله أحب الله، فمحبوب المحبوب محبوب لله، يحب الله، فمن أحب الله أحبه الله، فيحب من أحب الله. /وأما أهل الشرك فيتخذون أندادًا وشفعاء يدعونهم من دون الله،قال الله تعالى: والله تعالى بعث الرسل، وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إنا معشر الأنبياء ديننا واحد). فالدين واحد، وإن تفرقت الشِّرْعَة والمنهاج، قال الله تعالى: فعلى الخلق كلهم اتباع محمد صلى الله عليه وسلم، فلا يعبدون إلا الله، ويعبدونه بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم لا بغيرها، قال الله تعالى: والله ـ سبحانه وتعالى ـ أرسل الرسل بأنه لا إله إلا هو فتخلو القلوب عن محبة ما سواه بمحبته وبرجائه، وعن سؤال ما سواه بسؤاله، وعن العمل لما سواه بالعمل له، وعن الاستعانة بما سواه بالاستعانة به. ولهذا كان وسط الفاتحة: والملائكة والأنبياء وغيرهم عباد الله، كما قال الله تعالى: وإنما المؤمن من يوالي جميع أهل الإيمان. قال الله تعالى: ومما يبين الحب لله والحب لغير الله، أن أبا بكر -رضي الله عنه- كان يحب النبي صلى الله عليه وسلم مخلصًا لله، وأبو طالب ـ عمه ـ كان يحبه وينصره لهواه لا لله، فتقبل الله عمل أبي بكر وأنزل فيه: والله هو الذي يخلق، ويرزق، ويعطي، ويمنع، ويخفض، ويرفع، ويعز ويذل، وهو ـ سبحانه ـ مسبب الأسباب، ورب كل شيء ومليكه، والأسباب التي تفعلها العباد منها ما أمر الله به وأباحه، فهذا يَسْلك، ومنها ما نهي عنه نهيًا خالصًا، أو كان من البدع التي لم يأذن الله بها، فهذا لا يسلك. قال الله تعالى: بَيَّن ـ سبحانه ـ ضلال الذين يدعون المخلوق من الملائكة والأنبياء وغيرهم، فبين أن المخلوقين لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ثم بين أنه لا شِرْكَة لهم، ثم بين أنه لا عَوْنَ له ولا ظهير؛ لأن أهل الشرك يشبهون الخالق بالمخلوق كما يقول بعضهم إذا كانت لك حاجة: اسْتَوْحِ الشيخ فلانا فإنك تجده، أو توجه إلى ضريحــه خطوات، وناد: يا شيخ، تقضي حاجتك، وهذا غلط لا يحل فعله، وإن كان من هؤلاء الداعين لغير الله من يري صورة المدعو أحيانًا، فذلك شيطان يمثل له، كما وقع مثل هذا لعدد كثير، ونظير هذا قول بعض الجهال من أتباع الشيخ عَدِي وغيره: كل رزق لا يجيء على يد الشيخ لا أريده. والعجب من ذي عقل سليم يستوحي من هو ميت، ويستغيث به، ـ ولا يستغيث بالحي الذي لا يموت ـ فيقول أحدهم: إذا كانت لك حاجة إلى ملك توسلت إليه بأعوانه، فهكذا يتوسل إليه بالشيوخ، وهذا كلام أهل الشرك والضلال، فإن الملك لا يعلم حوائج رعيته، ولا يقدر على قضائها وحده، ولا يريد ذلك إلا لغرض يحصل/له بسبب ذلك، والله أعلم بكل شيء يعلم السر وأخفي، وهو على كل شيء قدير، فالأسباب منه وإليه. وما من سبب من الأسباب إلا دَائِر موقوف على أسباب أخري، وله معارضات، فالنار لا تحرق إلا إذا كان المحل قابلاً، فلا تحرق السَّمَنْدَل، وإذا شاء الله منع أثرها، كما فعل بابراهيم ـ عليه السلام ـ وأما مشيئة الرب فلا تحتاج إلى غيره، ولا مانع لها، بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وهو ـ سبحانه ـ أرحم من الوالدة بولدها، يحسن إليهم، ويرحمهم ويكشف ضرهم مع غناه عنهم، وافتقارهم إليه وكلما كان الرجل أعظم إخلاصًا لله، كانت شفاعة الرسول أقرب إليه قال له أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: (من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله). وأما الذين يتوكلون على فلان ليشفع لهم من دون الله تعالى، ويتعلقون بفلان، فهؤلاء مـن جنس المشركين الذين اتخذوا شفعاء من/دون الله تعالى، قال الله تعالى: والمؤمنون أشد حبًا لله، فلا يعبدون إلا الله وحده، ولا يجعلون معه شيئًا، يحبونه كحبه لا أنبياءه ولا غيرهم، بل أحبوا ما أحبه بمحبتهم لله، وأخلصوا دينهم لله، وعلموا أن أحدًا لا يشفع لهم إلا بإذن الله، فأحبوا عَبْدَ الله ورسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم لحب الله، وعلموا أنه عبدالله المبلغ عن الله، فأطاعوه فيما أمر، وصدقوه فيما أخبر، ولم يرجوا إلا الله، ولم يخافوا إلا الله، ولم يسألوا إلا الله، وشفاعته لمن/يشفع له هو بإذن الله، ولا ينفع رجاؤنا للشفيع، ولا مخافتنا له، وإنما ينفع توحيدنا وإخلاصنا لله، وتوكلنا عليه، فهو الذي يأذن للشفيع. فعلى المسلم أن يفرق بين محبة النصاري والمشركين ودينهم، ويتبع أهل التوحيد والإيمان، ويخرج عن مشابهة المشركين وعَبَدَةِ الصُّلْبَان. وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقي في النار). / فأجاب: الحمد لله، هذا الحديث قد رواه الترمذي، وقد ذكره أبو الفرج في الموضوعات، وسواء صح لفظه، أو لم يصح، فالمسكين المحمود هو المتواضع، الخاشع لله، ليس المراد بالمسكنة عدم المال، بل قد يكون الرجل فقيرًا من المال، وهو جبار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (ثلاثة لا يكلمهم الله، ولا ينظر إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب اليم: ملك كذاب، وفقير مختال، وشيخ زان). وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا عبد آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد). فالمسكنة: خلق في النفس، وهو التواضع والخشوع، واللين ضد الكِبْر. كما قال عيسي ـ عليه السلام ـ: /مساكين أهل الحب حتى قبورهم ** عليها تـراب الــذل بـين المقابـــر أي: أذلاء فالحب يعطي الذل، وعبادة الله تجمع كمال الحب له وكمال الذل له، فمن كان محبًا شيئًا ولم يكن ذليلاً له، لم يكن عابدًا. ومن كان ذليلاً له، وهو مُبْغِضُ، لم يكن عابدًا، والحب درجات: أعلاه التَّتَيُّم، وهو التعبد، وتَيَّم الله: عَبَدَ الله، وقد قال تعالى: فصل جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين العفة والغِنَي في عدة أحاديث، منها: قوله في حديث أبي سعيد المخرج في الصحيحين: (من يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ الله، ومن يستعفف يُعِفَّه الله). ومنها: قوله في حديث عياض بن حمار في صحيح مسلم: (أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مُقْسِط، ورجل غني عفيف متصدق). ومنها: قوله في حديث الخيل الذي في الصحيح: (ورجل ارتبطها تَغَنِّيَا وتعففًا. ولم يَنْسَ حق الله في رقابها وظهورها، فهي له سِتْر). ومنها: ما روي عنه: (من طلب المال استغناءً عن الناس واستعفافًا عن المسألة لقي الله ووجهه كالقمر ليلة البدر). ومنها: قوله في حديث عمر ـ وغيره ـ: (ما أتاك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مُشْرِفٍ فخذه) فالسائل بلسانه، وهو ضد المتعفف، والمُشْرِفُ بقلبه، وهو ضد الغني. قال في حق الفقراء: أطعت مطامعي فاستعبدتني فَكرِهَ أن يتبع نفسه ما استشرفت له لئلا يبقي في القلب فقر وطمع إلى المخلوق، فإنه خلاف التوكل المأمور به، وخلاف غني النفس. فصل جاء في حديث (إن أكبر الكبائر الكفر والكِبْر) وهذا صحيح، فإن هذين الذنبين أساس كل ذنب في الإنس والجن، فإن إبليس هو الذي فعل ذلك أولاً، وهو أصل ذلك. قال الله تعالى: وكذلك الشرك في مثل قوله: /ثم مـن الناس من يجمع بينهما،ومنهم من ينفرد له أحدهما،والمؤمن الصالح عافاه الله منهما. فإن الإنسان؛ إما أن يخضع لله وحده، أو يخضع لغيره مع خضوعه له، أولا يخضع لا لله ولا لغيره. فالأول: هو المؤمن، والثاني: هو المشرك، والثالث: هو المتكبر الكافر. وقد لا يكون كافرًا في بعض المواضع، والنصاري آفَتُهُم الشرك، وإليهود آفتهم الكبر، كما قال تعالى عن النصاري: فصل ومما يتعلق بالثلاث المهلكات والمنجيات التي ذكر أنه عند المهلكات عليك بخُوَيْصَة نفسك. أنه قال: (شُحَُّ مطاع، وهَوي مُتَّبع) فجعل هذا مطاعًا، وهذا متبعًا، وهذا ـ والله أعلم ـ لأن الهوي هوي النفس، وهو محبتها للشيء، وشهوتها له، سواء أريد به المصدر أو المفعول. فصاحب الهوي يأمره هواه، ويدعوه فيتبعه، كما تتبع حركات الجوارح إرادة القلب، ولهذا قال الله تعالى: وهذا يعم الهوي في الدين، كالنصاري، وأهل البدع في المقال والقَدَر. كما كان السلف يسمونهم أهل الأهواء، من الرافضة والخوارج. وهذا الهوي موجود في كثير من الفقراء والفقهاء، إلا من عصمه الله. /وقد اختلف أصحابنا، هل يدخل الفقهاء المختلفون في اسم أهل الأهواء. على وجهين، أدخلهم في التقسيم القاضي أبو يَعلى، وكذلك قبله الشيخ أبو حامد الإسْفَرائيني فيما أظن، وأنكره ابن عقيل. وأما [الشح المطاع] فقد ذكرنا أن مَفْسدته عائدة إلى منع الخير، وهذا في الأصل ليس هو محبوبًا، وإنما يحمل عليه الحرص على المشحوح به، فإنه من باب النَّفَرة والبغض، فهو يأمر صاحبه فيطيعه، وليس كل مطاع متبعًا، وإن كان كل متبع مطاعًا، فإن الإنسان يطيع الطبيب والأمير وغيرهما في أمور خاصة، وليس متبعًا لهم، أما التابع لغيره فهو مطيع وزيادة، فإنه يذهب معه حيثما ذهب. وفرق ثانٍ، أن المتبع الذي يطلب في نفسه، فغاية المتبع إدراكه ونيله، وهذا شأن الهوي. وأما المطاع فغاية لغيره، وهذا شأن الشح. وتحقيق معني الشح: أنه شدة المنع التي تقوم في النفس. كما يقال: شحيح بدينه، وضَنِين بدينه، فهو خلق في النفس، والبخل من فروعه. كما في الصحيحين عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إياكم والشُح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا)، وكذلك في حديث عبد الرحمن بن عوف أنه كان يقول في طوافه: رب قني/شح نفسي. فقيل له: ما أكثر ما تستعيذ من ذلك! فقال: إذا وقيت شح نفسي،وقيت الظلم والبخل والقطيعة، أو كما قال؛ ولهذا بين الكتاب والسنة أن الشح والحسد من جنس واحد في قوله: ولهذا كان البخل والحسد من نوع واحد، فإن الحاسد يكره عطاء غيره، والباخل لا يحب عطاء نفسه، ثم قال: ولهذا في حديث أبي هريرة الذي رواه... النسائي من حديث محمد بن عَجْلان، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجتمع في النار/مسلم قتل كافرًا ثم سدد وقارب، ولا يجتمعان في جوف مؤمن: غبار في سبيل الله وفَيْحُ جهنم، ولا يجتمعان في قلب عبد: الإيمان والحسد) ورواه النسائي أيضًا من حديث جرير، عن سهيل [عن صفوان] بن أبي يزيد، عن القعقاع بن اللجلاج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدًا، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا). .. فانظر كيف ذكر الشح في الروايات المشهورة، وفي الأخري والحسد، واللفظ الأول أجمع، وكيف قرن في الحديث السماحة والشجاعة، كما قال في الحديث الآخر: (شر ما في المرء: شح هالع، وجبن خالع) فمدح الشجاعة في سبيل الله، وذم الشح. ونظير هذا قوله: (إن من الخيلاء ما يحبها الله، وهو اختيال الرجل بنفسه عند الحرب، وعند الصدقة) وقصد من الحديث قوله: / فأجاب: أما الحديث الأول، فهو كذب موضوع عند أهل العلم بالحديث، ليس هو في شيء من كتب الإسلام المعتمدة، وإنما يرويه مثل داود بن المحبر، وأمثاله من المصنفين في العقل، ويذكره أصحاب [رسائل إخوان الصفا] ونحوهم من المتفلسفة، وقد ذكره أبو حامد في بعض/كتبه، وابن عربي، وابن سَبعين، وأمثال هؤلاء، وهو عند أهل العلم بالحديث كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، كما ذكر ذلك أبو حاتم الرازي، وأبو الفرج ابن الجوزي، وغيرهما من المصنفين في علم الحديث. ومع هذا فلفظ الحديث: (أول ما خلق الله العقل قال له: أقبل فأقبل، وقال له: أدبر، فأدبر، قال: ما خلقت خلقًا أكرم على منك، فبك آخذ، وبك أعطي، وبك الثواب، وبك العقاب)، وفي لفظ: (لما خلق الله العقل قال له: كذلك) ومعني هذا اللفظ أنه قال للعقل في أول أوقات خلقه،ليس فيه أن العقل أول المخلوقات،لكن المتفلسفة القائلون بقدم العالم أتباع أرسطو، هم ومن سلك سبيلهم من باطنية الشيعة، والمتصوفة، والمتكلمة، رَوَوْهُ أول ما خلق الله العقل [بالضم]، ليكون ذلك حجة لمذهبهم، في أن أول المبدعات هو العقل الأول، وهذا اللفظ لم يروه به أحد من أهل الحديث، بل اللفظ المروي ـ مع ضعفه ـ يدل على نقيض هذا المعني، فإنه قال: (ما خلقت خلقًا أكرم على منك) فدل على أنه قد خلق قبله غيره، والذي يسميه الفلاسفة العقل الأول، ليس قبله مخلوق عندهم. وأيضًا، فـإنه قـال: (بك آخذ، وبك أعطي، وبك الثواب، وبك العقاب)، فجعل به هـذه الأعـراض الأربعـة، وعنـد أولئك المتفلسـفة الباطنية،/أن جميع العالم صدر عن العقـل الأول، وهـو رب السمـوات والأرض ومـا بينهما عنـدهم، وإن كـان مربوبًا للواجب بنفسه، وهو عندهم متولد عن الله، لازم لذاته، وليس هذا قول أحد من أهل الملل، لا المسلمـين ولا إليهـود، ولا النصاري ـ إلا مَنْ أَلْحَدَ منهم ـ ولا هو قول المجوس، ولا جمهور الصابئين، ولا أكثر المشركين، ولا جمهور الفلاسفة، بل هو قول طائفة منهم. وأيضًا، فإن العقل في لغة المسلمين عَرَض من الأعراض، قائم بغيره وهو غريزة، أو علم، أو عمل بالعلم، ليس العقل في لغتهم جوهرًا قائمًا بنفسه، فيمتنع أن يكون أول المخلوقات عرضًا قائمًا بغيره، فإن العرض لا يقوم إلا بمحل، فيمتنع وجوده قبل وجود شيء من الأعيان، وأما أولئك المتفلسفة، ففي اصطلاحهم أنه جوهر قائم بنفسه، وليس هذا المعني هو معني العقل في لغة المسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم خاطب المسلمين بلغة العرب، لا بلغة اليونان، فعلم أن المعني الذي أراده المتفلسفة لم يقصده الرسول، لو كان تكلم بهذا اللفظ، فكيف إذا لم يتكلم به؟! وأما الحديث الثاني، وهو قوله: (أمرت أن أخاطب الناس على قدر عقولهم) فهذا لم يروه أحد من علماء المسلمين الذين يعتمد عليهم في الرواية، وليس هو في شيء من كتبهم، وخطاب الله ورسوله للناس/ عام يتناول جميع المكلفين، كقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [النساء: 1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} [البقرة:104]، {يَا عِبَادِ} [الزخرف:68] ولهذا كان أبو بكر الصديق أعلمهم بمراده، كما في الصحيحين، عن أبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال: (إن عبدًا خَيَّره الله بين الدنيا والآخرة، فاختار ذلك العبد ما عند الله) قال: فبكى أبو بكر وقال: نفديك بأنفسنا وأموالنا، فجعل الناس يعجبون منه، ويقولون: عجبًا لهذا الشيخ! بكى أن ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبدًا خيره الله بين الدنيا والآخرة، قال: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير. وكان أبو بكر أعلمنا به) فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر عبدًا مطلقًا لم يعينه، ولكن أبو بكر عرف عينه. وما يرويه بعض الناس عن عمر، أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يتحدثان، وكنت كالزِّْنْجِي بينهما فهذا كذب مختلق. وكذلك ما يروي أنه أجاب أبا بكر بجواب، وأجاب عائشة بجواب، فهذا كذب باتفاق أهل العلم.
|